متابعة: نادر حلفاوي
عاد الشعار القديم الذي صاحب شرارة الاحتجاجات «شرقت شرقت.. عطبرة مرقت»، لكن هذه المرة هتف السودانيون وهم يستقبلون قطار ثوار عطبرة بـ»شرقت شرقت.. عطبرة وصلت».
واندلعت شرارة المظاهرات يوم 19 ديسمبر لماضي من المدرسة الصناعية بعطبرة احتجاجا على زيادة كبيرة في أسعار الخبز. ثم سارت في ركابها المدن السودانية كلها. وحين حط الثوار في محيط قيادة الجيش في العاصمة الخرطوم، عجل ذلك بإطاحة عهد البشير الذي استغرق 30 عاماً من المكابدة والجهد.
وكانت شرارة أحداث الثورة التي شبّت وقادت إلى إطاحة البشير ونظامه قد اندلعت من مدينة عطبرة شمال السودان. وانتهت أحداث يوم الثلاثاء بدخول قطار عطبرة المحمل بآلاف الثوار الراغبين في إنهاء ما بدأوه من تغيير على الوجه الأتم مع إخوانهم المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش الرئيسية في العاصمة الخرطوم.
كما بهرت عطبرة السودانيين بهبّتها ضد البشير، ها هي تبهرهم ثانيةً بقطارها المجيد، ليحق فيها التغني «بهرتني صورة عطبرة».
وقطع القطار مسافة 310 كلم من عطبرة شمالا إلى الخرطوم جنوبا في نحو ثماني ساعات وعلى متنه المئات من عمال السكة الحديد وأهالي مدينة عطبرة، وكان مضطرا للسير ببطء بسبب المستقبلين في المحطات التي مر بها.
استقبالات حاشدة وسط دموع المستقبلين وزغاريد النساء
وتحت ضغط الأهالي، توقف القطار في الدامر وشندي بولاية نهر النيل حيث تم تزويد الركاب بالأكل والشرب، وعندما دخل القطار شمال الخرطوم قطع أهالي الكدرو والإزيرقاب الطريق أمامه وسط الهتافات وزغاريد النساء.
ومن شمبات مرورا بأحياء الصافية والمزاد كان القطار يمشي الهوينى بسبب كثافة المستقبلين على امتداد خط السكة الحديد وكثرة الذين امتطوا أسطح عربات القطار.
وفي عبورهم لجسر النيل الأزرق الرابط بين الخرطوم وبحري، مرت شعارات كثيرة فوق الجسر، أبرزها هتاف «حرية وسلمية» وهما من أهم صفات الحراك السوداني، و»الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية» في تدليل على أن الثورة السودانية ماضية في ملاحقة قتلة المتظاهرين أمام المحاكم، بينما كان الهتاف الأكثر ظهوراً «ما دايرين زين العابدين»، وهي عبارة توضح بجلاء رفض الثوار لمسؤول اللجنة السياسية في المجلس العسكري، الجنرال عمر زين العابدين، ما يعطي ملمحاً قوياً إلى أن ثوار عطبرة القادمين بحقائبهم سيشكلون رصيداً إضافياً للمعتصمين الراغبين في إسقاط المجلس العسكري باعتباره امتداداً لنظام المخلوع البشير. وما إن لاح القطار متوغلا إلى محطة الخرطوم بحري حتى تدافع الثوار وسط دموع المستقبلين وزغاريد النساء وهتافات مدوية تمجد الثورة. وشهد يوم الأحد الماضي احتجاجات للعاملين بالسكة الحديد في عطبرة، مطالبين بمحاسبة كل المتورطين في التدهور والفساد الذي شمل قطاع السكك الحديد خلال الثلاثين عاما الماضية من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير. وطلب المحتجون بتسيير قطار إلى ساحة الاعتصام بالخرطوم دعما للمعتصمين حتى تتحقق مطالبهم بتشكيل حكومة مدنية.
مدينة الحديد والنار بدأت بعبود ومرورا بالنميري وانتهاء بالبشير
وتعد عطبرة مدينة ثورية بامتياز، حيث شكلت نقابة السكة الحديد هويتها طيلة الحقب السياسية الماضية، إذ تضم رئاسة السكك الحديد في السودان، ونسبة لحجم الورش الملحقة بالرئاسة عرفت باسم «مدينة الحديد والنار».
وقاومت نقابة السكة الحديد في عطبرة الأنظمة العسكرية ابتداء بالفريق إبراهيم عبود ومرورا بالمشير جعفر نميري وانتهاء بالمشير عمر البشير.
ولا ينس السودانيون قولا منسوبا للنميري عندما رفض إنشاء شارع يربط عطبرة بالخرطوم، متخوفا من وصول أهالي عطبرة إلى العاصمة على دراجاتهم الهوائية للتظاهر ضده، حيث عرف أهاليها بولعهم بالدراجات.
وبعد نحو خمسة عقود من حديث النميري، وصل أهالي عطبرة للتظاهر في الخرطوم ولكن على متن قطارهم.
وكان من بين المستقبلين لقطار عطبرة المئات من أهالي المدينة وأسرهم الذين انتقلوا للعيش في العاصمة الخرطوم.
عبرات وذكريات
وقال رئيس الهيئة النقابية بعطبرة أحمد عبد الرحمن لدى انتظاره قطار عطبرة «منذ اليوم لن نعود للوراء.. عطبرة أول مدينة بادرت بصناعة هذا الحدث التاريخي الذي يعيشه السودان».
أما تاج السر حسن أبو زيد فكان يغالب دموعه وهو يقول إنه فُصل مرتين من عمله بالسكة الحديد في عهدي نميري والبشير، ويضيف أن «أعظم ما يمكن أن تهديه له الثورة إعادة بناء السكة الحديد».
وتعرض الآلاف من أهالي عطبرة، وهي مدينة عمالية بامتياز، للتشريد من وظائفهم في السكة الحديد بعد تولي البشير الحكم في يونيو 1989 بذريعة ما عرف حينها بـ»الصالح العام».
عودة الأمجاد
ويمتلك السودان أطول شبكة سكك حديد في أفريقيا بنحو 5978 كلم امتدت شمالا (حلفا وبورتسودان وعطبرة والخرطوم) والوسط (الخرطوم وود مدني وسنار والدمازين) وغربا حتى مدينة «واو» بدولة جنوب السودان.
لكن قطاع السكك الحديد بالبلاد شهد تدهورا في ظل عدم القدرة على شراء عربات جديدة أو جلب قطع الغيار جراء العقوبات الاقتصادية الأميركية.
ويأمل عمال السكة الحديد على امتداد البلاد عامة وعطبرة خاصة، في إعادة أمجاد القطار الذي شكل وجدان السودانيين وظهر ذلك في ثقافتهم وغنائهم وأشعارهم. وحظي قطار عطبرة باستقبال حاشد من المعتصمين وهو يتخطى محطة الخرطوم بحري ليعبر جسر النيل الأزرق ويدخل مباشرة إلى ساحة المعتصمين أمام قيادة الجيش، ليعطي الاعتصام مزيدا من الزخم.