الخميس, 12 سبتمبر 2019 03:14 مساءً 0 344 0
البصمة
البصمة

كثيراً ما يستوقفني المرحوم فتح الرحمن أحمد الحاج (بروزة) (1)

 

كثيراً ما تستوقفني سِيَر الأئمة الأعلام، وما أنجزوه للبشرية من علوم دينية ومادية، وبمقياس ما هو متاح من أدوات العصر الذي عاشوا فيه حيث الكتابة بقلم القصب وحبر السناج، مقارنة مع ما عاشوه من سنين، يكون ذلك من الإعجاز بكل المقاييس.
إبان سنين الدراسة وفي التاريخ تحديداً كانت تمر علينا سير بعض الشخصيات الفذة التي قامت بإنجازات عظيمة، فكانت تأخذنا الدهشة كيف وجدوا الوقت لمثل هذا النوع من الأعمال التي تحتاج أحياناً إلى فريق عمل متكامل، قياساً إلى عمر الإنسان المحدود، ومثال ذلك كتابات الإمام الطبري، وبإجراء عملية إحصاء بسيطة مقارنة بحجم المؤلفات وما ترك الإمام الطبري من مخطوطات، أنه كان يكتب ما يعادل أربعين صفحة يومياً في وقت كانت فيه وسيلة الكتابة قلم البوص والمحبرة وورق خشن يصعب الحصول عليه، في وقت ليس فيه كيبورد أو قوقل الذي حول معظم المادة المكتوبة لدى كثير من الكتّاب بما في ذلك شخصي إلى عملية نسخ ولصق من غير أمانة الإشارة إلى المصدر وحفظ حق الملكية الفكرية.
أربعون صفحة يومياً يصعب مجرد نسخها ناهيك عن كتابتها وبذاك الجهد الفكري المميز، المسألة في ما يخص الإمام الطبري وغيره من ذوي الأعمال الخالدة ليست مسألة وقت وإنما هي البركة والتوفيق في العمل، رغم صوفية هذا النوع من التفسير إلا أنه يبدو الأقرب الذي ترتاح إليه نفسي.
ولعله أيضاً تحضرني سيرة الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الملقب بالإمام الشافعي هو إمام مفسر فقيه، عالم موسوعي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من علوم التفسير إلى علوم الحديث، حضر  إلى مكة وكان يبلغ من العمر عامين وحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره وحفظ الموطأ وهو  في العاشرة من عمره، كان قاضياً فعرف عنه العدل والذكاء، إضافة لذلك كان الإمام الشافعي شاعراً فصيحاً ورامياً ماهراً ، وله سِفره الشهير المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي إضافة لتأليف كتاب الرسالة الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه، فأكثر العلماء والأئمة من الثناء على الإمام الشافعي، وقال فيه الرسول الكريم (عالم قريش الذي يملأ الأرض نوراً) كما قال  الإمام أحمد رضي الله عنه مقولته الشهيرة (الإمام الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس) كل هذه الأعمال والمؤلفات الضخمة  والعلم الموروث تحتاج قراءتهم فقط إلى عمر كامل.
وهنا يثور في ذهني السؤال المتكرر، كيف استطاع هؤلاء إنجاز ما أنجزوه من أعمال، تفسير المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي  أحد المراجع المهمة في كتب التفسير بنزوعه إلى الفلسفة والتأويل والشروحات المطولة التي تعطي أبعاداً إضافية لحرفية النصوص، كما أن إسهاماته في تدريسه للمذهب الحنفي والمذهب المالكي  تعد فتحاً مهماً في ذلكم المجال، في وقت كانت كل المحاولات تتعثر بضعف الوسائل وقلة التجارب وضعف الموروث، وإسهاماته خالدة وهاهي الأجيال تدرك ذلك من خلال الكتب والمؤلفات والمراجع، ناهيك عما أسهم به في مجالات أخرى،  فالسؤال الذي يطرح نفسه دائماً كيف وجد هؤلاء العباقرة الزمن والطاقة لإنجاز ما أنجزوه، ولعل الإجابة تكمن في هذه المعادلة السحرية، وهي  البركة والتوفيق  أي أن بارك الله لهم وقتهم وصحتهم وأيدهم بالتوفيق، بينما آخرون حظهم المحق والإخفاق.
تمر بذهني هذه الشخصيات الفذة كلما أتت سيرة المرحوم الأستاذ مربي الأجيال فتح الرحمن أحمد الحاج عبد الله (بروزة) وعندما نتحدث عن هذه الشخصية نتحدث عن شخصية سودانية أصيلة، فالرجل دون  تضخيم أو مدح غير مستحق يعد رمزاً من الرموز الوطنية، وما احتل موقعاً إلا وحوله لموقع يشار إليه بالبنان، ومسيرته في مجال التعليم تحكي عن نفسها ولا ينتطح فيها كبشان ولا يختلف حولها شخصان، فعندما تنثر وزارة التربية والتعليم عيدانها لتنتقي سهماً تقذف به في قضية شائكة أو مستعصية، يكون الأستاذ فتح الرحمن هو ذلك السهم المنتقى.
عمل الأستاذ فتح الرحمن في مجال التعليم وكان رائداً في هذا المجال وله إسهامات عديدة أبرزها تعليم مادة اللغة الإنجليزية بالمدارس السودانية الحكومية والأهلية والمساهمة في وضع المناهج القديمة، ولعل الفترة التي قضاها وهو يعمل في وظيفة معلم ومدير بمختلف مدن وولايات السودان قد شهدت الطفرة الحقيقية لنهضة التعليم بالبلاد، ولعل هذه الجهود والخبرات الضخمة الملموسة والمنظورة هي التي جعلت بعض الدول الشقيقة تتجه لتطلب من الحكومة السودانية انتداب معلمين للعمل بالخارج لتطوير المناهج والطلاب، فكان القدر أن يذهب المرحوم لبعض الدول، وكانت ليبيا هي محطة امتدت لسنوات، تتلمذ فيها على يده الكثير من الشخصيات التي تبوأت مراكز عليا ومرموقة بالدولة الليبية، هذه الأعمال الضخمة لفتت انتباه المنظمات العالمية وعلى سبيل المثال منظمة الـ(WFP) الشريك الأساسي في مشروع التغذية المدرسية، والذين بدورهم اختاروا المرحوم فتح الرحمن ممثلاً للمشروع بعد تزكية وموافقة الحكومة السودانية نظير خبراته وفنائه في العمل ومسيرته الحافلة بالنجاح.
وما يميز الرجل أنه لم يكن يعمل بالطرق التقليدية المعتادة، وإنما كان يعمل بطرق حديثة مبتكرة أكثر فائدة وجاذبية تدل على أنه عالم موسوعي، كان المرحوم يجيد العربية ويتقن الإنجليزية ويمتاز بالإدارة الرشيدة ويجيد التواضع، ويحسن الاستقبال والكرم، ويعشق مساعدة الآخرين، ما يميز الرجل مع كل هذه المشغوليات تجده دائماً أول الحاضرين في كافة المناسبات الأفراح والأحزان يعيش حياه بسيطة دون أي تعقيدات.
 قد يطول الحديث ولكن المساحة لا تسع وقد لا يستطيع قوقل نفسه فعل ذلك، فالرجل موسوعة من العلم والمعرفة ويمتاز بصفات حميدة قد لا تتوافر في شخص آخر، وما يربطني به من علاقة يحتم عليّ أن أقول ما قلت وأربط بينه وبين علماء الزمن القديم. أعتقد أن السر في هذه المعادلة السحرية يكمن في عدالة السماء، فالرجل صالح ونشهد له بذلك وعالم موسوعي وأعماله تتحدث عن ذلك، ووجدت هذه الصفات والأعمال التوفيق من عند الله سبحانه وتعالى، مضت ستة أشهر منذ رحيل المرحوم فتح الرحمن أحمد الحاج عن الحياة، غادرت روحه لكنه ظل باقياً في قلوبنا وبيننا حتى تفيض أرواحنا أيضاً.
(لنا عودة) (أسألكم بالله الفاتحة)

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق