الثلاثاء, 03 ديسمبر 2019 01:25 مساءً 0 377 0
الخبير الاقتصادي د. صدقي كبلو يكتب لـ(أخبار اليوم)
الخبير الاقتصادي د. صدقي كبلو يكتب لـ(أخبار اليوم)

التحضير لميزانية 2020

تحدثنا في الحلقة الماضية عن طبيعة الأزمة الاقتصادية الموروثة من النظام السابق وكيفية ارتباطها بطبيعته، نظام ديكتاتوري شمولي للرأس مالية الطفيلية يشن حربًا ضد مواطنيه وهو معزول عالميًا مما أعطى الأزمة الاقتصادية سماتها الخاصة المتعلقة بعدم التوازن الخارجي والداخلي، وقلنا إنه لابد من إجراءات إدارية وسياسية لإصلاح عدم التوازن قبل أن يستعيد الاقتصاد آليات توازنه وفقًا لآليات السوق العادية. وقد اقترحنا إجراءات حول الاستيراد قلنا إنها ستؤدي لمجموعة من النتائج الإيجابية، لخصناها في:
" خفض الطلب على النقد الأجنبي وبالتالي تحجيم حجم السوق الموازي في الخارج وتمويل استيراد هذ السلع من تحويلات المغتربين ومدخراتهم التي تحول عن طريق ذلك السوق وعندما ينخفض الطلب ينخفض السعر بل وتتوافر مبالغ من النقد الأجنبي من تحويلات المغتربين عبر الطرق المصرفية المعروفة وبأسعار جديدة تنشأ عن علاقة العرض والطلب المعروفة وبالتالي نتوقع تحسنًا ملحوظًا في سعر العملة الوطنية وانخفاضًا في التضخم. بل إن الإجراء سيؤدي لارتفاع إنتاج الصناعة التحويلية المحلية خاصة إذا تمت الإجراءات وفق خطة مع الصناعيين السودانيين يحميها برنامج زمني حول تحسين الطاقة الإنتاجية وزيادتها، ومن المؤمل أن تساهم في زيادة العاملين بالصناعة التحويلية وبالتالي تخفيض معدل البطالة.
وندلف اليوم لإجراءات أخرى نبدأها بإجراء آخر يدعم الميزان التجاري ولكنه متعلق بالصادر:
الّذهب أولًا
لابد من معالجة مسألة تنظيم إنتاج وسوق وتصدير الذهب بحيث ينعكس ذلك إيجابًا على الميزان التجاري، مما يتطلب تعاونًا وثيقًا بين وزارة النفط والمعادن ووزارة التجارة والصناعة ووزارة الداخلية ووزير العدل والنائب العام والقطاع الخاص ومنتجي الذهب الأهليين.
لابد من الاتفاق أولًا على أن الذهب (وكل ثروات باطن الأرض) هي ملك لشعب السودان والدولة في إدارتها لهذه الثروة غير مسموح لها بالتفريط في الثروة القومية أو إهدارها، والثروة المكتشفة في منطقة ما يجب أن يستفيد منها بشكل أساسي أهل المنطقة، فذلك يسهم في تطور المنطقة خاصة المناطق الأقل نموًا أو التي عانت من ويلات الحرب (والتي سببها الأساسي هو التطور غير المتوازن والتنمية غير المتوازنة وآليات تراكم الثروة ورأس المال التي تسلب بعض المناطق فوائضها الاقتصادية) ويعني هذا مراجعة كافة تصديقات التعدين  والنفط) وشروطها بما يخدم التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للثروة والخدمات الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يتطلب إما استيلاء الدولة على المناجم في هذه المناطق أو وضع شروط قسمة إنتاج لصالح المناطق وعندما أقول قسمة إنتاج لا أعني ما يتفضل به المستثمرون تحت بند المسؤولية الاجتماعية، بل أقصد نصيبًا ريعيًا لمنتجات أرض تملكها في الأصل المجتمعات المحلية وتديرها الدولة نيابة عنهم، فذهب دارفور مثلًا يجب أن يستفيد منه أولًا إقليم دارفور الكبير وهكذا بالنسبة لجبال النوبة وشمال كردفان والأنقسنا والشمالية والنيل والبحر الأحمر. وهذا يطبق على الاستثمار في هذا المجال إذا كانت شراكة، قطاعًا خاصًا أجنبيًا أو محليًا وتعدينًا أهليًا صغيرًا. ومن الممكن أن يؤخذ نصيب المنطقة والدولة إما في باب المنجم في حالات الشركات الكبيرة أو عند الطواحين أو باب مصنع الكرتة. وسيكون للعائد من هذا الريع أثر كبير في التوازن الداخلي في مجال الميزانية يبدأ من ميزانية المحليات والولايات إلى المركز.
لكن ما يهم التوازن الخارجي هو أن يعود صادر الذهب نقدًا أجنبيًا لخزينة بنك السودان مما يؤثر إيجابًا في الميزان التجاري وتوفير النقد الأجنبي للواردات الرئيسة استهلاكية وإنتاجية وتحسين قيمة تبادل العملة الوطنية والتأثير بالتالي على التضخم. ولكن كيف يعود ذلك وهنا لابد من تنظيم سوق الذهب وأهم خطوة هنا وجود بورصة أو سوق رسمي للذهب تحدد فيه الأسعار وفقًا لأسعار الذهب العالمية ويورد المصدرون قيمة مشترياتهم بالعملات الصعبة. ولابد أن يحمى مثل هذا السوق بسياج قانوني يرفع من عواقب المخاطرة (Risk taking )  ويدفع الناس لعدم أخذ المخاطر (Risk aversion) وذلك بتعديل القوانين السائدة بما في ذلك قانون العقوبات والجمارك بحيث تؤدي لعقوبات رادعة بالسجن ومصادرة الذهب المهرب ومصادرة الأموال وسحب الرخص الخ، وفي الوقت نفسه تطور آليات مكافحة التهريب في الحدود والموانئ بإدخال التكنولوجيا وتدريب وتحفيز العاملين بتخصيص نسب مئوية لمن يكتشفون ويخضعون للتدريب. وسيعمل كل ذلك مع آلية السوق المقترحة لاستفادة البلاد من عائد صادراتها من الذهب إذ أن المنتج ينال عائده وفقًا للسعر العالمي من خلال البورصة والمهرب يخسر كل شيء.
حشد الموارد
تتحدث الحكومة الانتقالية كثيرًا عن حشد الموارد وعندما تنظر لبرامجها يخيل لك أن حشد الموارد يقصد به فقط الموارد الضريبية، بينما المفهوم أوسع وينسجم مع شعار حكومي يدعو لولاية وزارة المالية على المال العام. نحن لا نشك في أن النظام الضرائبي والأجهزة الضريبية تحتاج لإصلاح ولكن ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك الإصلاح لزيادة عائد الضرائب في مجمله أو نسبته من الناتج المحلي وفي رأيي أن تهتم الحكومة بزيادة نسبة إيرادات الدولة من إجمالي الناتج الإجمالي وليس فقط عائد الضرائب. ولعل التشوهات التي لحقت بالاقتصاد السوداني منذ الاستقلال وخلال فترة الإنقاذ بالتحديد والتي قلصت العائدات غير الضريبية والهجوم النظري والآيديولوجي الذي واجهته دولة الريع والدولة التنموية من قبل منظري الاقتصاد الكلاسيكي الجديد خلق وهمًا بأن رفع مساهمة الضرائب كنسبة من إجمالي الناتج المحلي هو الحل، وهذا تزييف لشعار رفع أيام الدولة التنموية يتحدث عن رفع نسبة الاستثمار العام من الإنتاج المحلي ونسبة ما يصرف على التعليم والخدمات من الإنتاج المحلي. ورغم عمومية المسألة نظريًا فهي في السودان لها تاريخ محدد وملموس.
الثورة المهدية
لقد حرص الحكم الاستعماري على تفادي رفع معدل الضرائب لتفادي أحد أهم أسباب الثورة المهدية؛ ولأن الإدارة البريطانية في السودان لم تكن تريد أن تخضع نفسها للسلطات المصرية التي كانت تمولها حتى قبيل الحرب العالمية فقد لجأت الإدارة البريطانية التي كانت تسمى حكومة السودان لبناء قطاع عام يدر عليها دخلًا تتحرر به من النفوذ المصري وفي الوقت نفسه تمول به إدارتها التي لم تكن تتبع لإدارة المستعمرات البريطانية، وهذا ما أدى لبقاء السكك الحديدية والميناء والنقل النهري والبوستة والتلغراف واستيراد السكر تحت إدارة الحكومة، وأدى للشراكة الثلاثية في مشروع الجزيرة وتأميمه عام 1950 ومن ثم توسع القطاع بمشروع الزاندي وبالتجارب الأولى للزراعة الآلية. ولهذا حافظت الإدارة البريطانية على ميزانية تحقق فوائض لفترة تقارب الأربعين عامًا )انظر: صدقي كبلو مقدمة لدراسة التطور الرأس مالي، الجزء الأول نشأة وتطور البنية الاقتصادية التابعة 1898-1960، مجلس الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، دورية رقم 112، الخرطوم 1984) واستطاعت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال دفع تعويضات الإداريين الإنجليز وإنشاء امتداد مشروع المناقل من فوائض تلك الميزانيات التي كان يأتي جل إيراداتها من القطاع العام والإيرادات غير الضريبية. سوء إدارة القطاع العام الذي توسع فيما بعد ليشمل مشاريع صناعية وزراعية أدى لتقلص عائداته بل اعتماد بعضه على الدعم الحكومي فذلك لا يثبت حجة الاعتماد على الإيرادات الضريبية التي فشلت فشلًا ذريعًا في إحداث توازن في الميزانية منذ الستينيات وحتى الآن. بل زاد العجز في الموازنات العامة بتصفية القطاع العام وتغيير علاقات الإنتاج في الجزيرة وبيع مزارع الدولة في الزراعة الآلية وتصفية أذرع الحكومة التي تقلص منصرفاتها الجارية بالعمل الحكومي المباشر كالمخازن والمهمات والنقل الميكانيكي والأشغال، ولولا الثورة لتم بيع الموانئ البحرية البقرة الحلوب.
قد نحتاج لبعض الوقت لاستعادة العائدات غير الضريبية ولكن ثمة إجراءات مهمة قبل الميزانية مثل وضع يد وزارة المالية على كل الشركات الإنتاجية والخدمية التي تملكها جهة حكومية كالقوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن السابق ومؤسسات النظام السياسية, وإجراء إصلاحات تعيد لما تبقى من القطاع العام كالسكك الحديدية والمؤسسة العامة للري والحفريات وشركات البترول والمعادن أسنانها، وتوقف استنزاف الرأس مالية الطفيلية لهذه المؤسسات عن طريق المقاولات والعطاءات (مثلًا شركة خاصة قامت بإعادة تعمير خطي بورتسودان عطبرة وعطبرة الخرطوم وشركات تقوم بإصلاح الري في مشروع الجزيرة وشركات النظام السابق السياسية تقوم بأعمال الطرق البرية والطرق داخل الخرطوم) وهذا في تقديري المنهج الصحيح لحشد الموارد، فالسكة حديد يمكنها بتسيير قطرين في اليوم من عطبرة للخرطوم ومن الخرطوم لمدني أن توفر عائدًا وإيرادًا يخرجها من الدعم الحكومي، وبميزانية معقولة يمكن أن تعود لنقل الصادرات والواردات وتقلل من تكلفة النقل ومن استهلاكنا للوقود والمحافظة على البيئة. هذا الطريق سيقود خلال ثلاث سنوات لتحسين التوازن الداخلي في جانب الميزانية.
حشد الموارد للإنتاج والتوازن السلعي
نحتاج في نطاق التحضير للميزانية العامة للوصول لخطط محددة لزيادة الإنتاج السلعي للاستهلاك والتصدير ومن هذه الإجراءات أن يتم النظر في وضع المشاريع المروية (الجزيرة، خشم القربة، الرهد، السوكي...الخ) وسأعود في مقال قادم لتفاصيل القضايا الزراعية (. نحتاج لقرارات وإجراءات فيما يتعلق بحشد الموارد لرفع الإنتاج الصناعي وسنعود لتفصيلها أيضًا في مقال قادم. لكن المهم هنا ألا نحصر فهمنا لحشد الموارد في مسألة الضرائب بقدر ما يكون فهمنا هو كيفية حشد الموارد في كل القطاعات وتحقيق أو تحسين التوازن الخارجي والداخلي. ولعل التشابك بين المالي والسلعي واضح لكل اقتصادي، فتحسين الإنتاج السلعي الصناعي والزراعي يخفف عبء المعيشة ويقلل من معدل التضخم ويخلق فرص عمل جديدة كما يسهم في التوازن الخارجي بزيادة الصادر وتقليل الواردات.

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

hala ali
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق