السبت, 07 ديسمبر 2019 01:46 مساءً 0 575 0
إشكالية اللهجات العامية في الأعمال الدرامية السودانية
إشكالية اللهجات العامية في الأعمال الدرامية السودانية

معلوم أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى للسودان، بالتالى هي لغة التعليم، عليه يتحدث السودانيون باللغة العربية، و كثر أيضا في المجموعات القبلية السودانية يتحدث بلغة غير العربية، والمعروفة اصطلاحا بالرطانة، العربية نفسها وحسب المناطق تولدت منها لهجات محلية، فأصبح لكل منطقة جغرافية تضم جماعة ما لسان خاص بهم عرفت باللهجات، هذه الألسن سواء كانت عربية اللسان أو لغة أخري تتميز بها جماعة عن أخري كالدناقلة في شمال السودان، و لهم لغتهم الخاصة و المعروفة باللغة النوبية ويتم التحدث بها في أقصى الشمال من قبل النوبيين (الدناقلة والمحسو الحلفاوين) و لغة الزغاوة في غرب السودان دارفور وتشاد، لغة البجا في شرق السودان كمثال،  و هذا ما جعل اللهجات العربية السودانية تختلف باختلاف القبيلة، مع كونها كلها متشابهة ومتقاربة ولكن مع بعض الفروقات البسيطة. فمثلا توجد الإمالة عند قبيلة الشايقية وبعض القبائل الأخرى المجاورة لها مثل البديرية والمناصير وغيرها، فكلمة « كريمة « مثلا ينطقونها « كريمي « وكلمة « دايرة» ينطقونها أيضا « دايري». والإمالة موجودة في أصل اللغة العربية، وهي موجودة في العديد من الدول العربية الأخرى. كما توجد لدى كثير منهم ظاهرة العنعنة وهي من لهجة بني تميم، فيقلبون الهمزة في بعض كلامهم عينا، وهي ظاهرة صوتية قديمة لدى بعض قبائل شبه الجزيرة العربية، ويتوسع في ذلك بدو أهل السودان فيقولون «العنبوبة» و المقصود «الأنبوبة»، و»سعَل» أى «سأل»، و»فقع» أى « فقأ»..
ادي اختلاط اللغات غير العربية مع العربية نتيجة استقرار القبائل العربية في بعض مناطق السودان كمناطق البجة «مثلا»، فتغيَّرت كثيرٌ من عاداتهم وتقاليدهم، ومن ضمنها تغير اللسان ولو جزئيا عند النطق بالحرف العربي، مع احتفاظهم بلغتهم الخاصة، وهذا بدوره ولد لهجة لها جرسها اللفظي الخاص، الذي يميزها عن اللهجات السودانية الأخرى.
هذا التعدد في اللهجات المختلفة و التي تشير إلى منشأ و منطقة المتحدث بها، أوحتى مستوى درجة تعليمه، أو وسطه الاجتماعي، فكلما كان التمسك بها (تلقائي)كأصل، قادت نوعا ما الى مستوي تعليمي أقل، فتصبح نقية، و كلما ابتعد عنها المتحدث بها حتى و لوغلبت عليه بحكم النمو و النشأة و الارتباط، تتغلب لغة المدارس علي لسانه، خاصة اذا ابتعد عن بيئته الأولى و أكثر من الاختلاط مع لسان وسط السودان حيث المدنية فينشأ اللسان الوسط، وفي بعض الأحيان، تقف اللهجات عائقاً أمام التعلم والفهم، وعقبة أمام التقدم المهني ونظرة المجتمع للمتحدث، رغم عدم تصنيفها (كعنصرية) ولكنها تكاد تقرب منها، ولهذا يتطلع كثيرون إلى التخلص من لهجتهم، واستبدالها بلغة (راقية) أو محايدة تمنحهم فرصاً عملية للترقي، (لهجة العاصمة) وتحول دون التفرقة ضدهم بناءا على لهجة متوارثة لا ذنب لهم فيها.
من هنا جاء الدور الخطير الذي من المفترض أن تلعبه الدراما عموما (تلفزيون، مسرح، سينما)، باعتبار أن الدراما أكثر التصاقا و قربا من قلب المتلقى الذي يحرص على المتابعة، اذا وجد فيها ما يحب، وعلى هذا يجب لكي تحافظ على دورها كوسيلة تثفيف من ناحية، تربوية من ناحية أخري، توجيهية من نواحي أخري، و معلوم الدور الذي يمكن توجيهه لتحافظ على متابعيها و لتكتسب مزيدا من المتابعين لها، لهذا عليها أن تخاطب الجميع، جميع السودانيين، ليسوا ككتلة واحدة بلغة واحدة أو لهجة واحدة، بل توزع أدوارها بين هذا و ذاك مرة تخاطب الشايقي، ومرة تخاطب الفور، و أخري الهوسا... الخ، فهذه مناطق تختلف في لسانها من حيث اللهجة وموروثها الاجتماعي، اذا تركنا اللغات الأخرى غير العربية جانبا.
اذا نظرنا الى الدراما المصرية خاصة وهي أكثر الدراما انتشارا على مستوي الوطن العربي و لها تأثيرها الواضح على جميع من يشاهدها أو يستمع إليها، نجدها قد اهتمت اهتماما واسعا جدا بعكس مناطق و قبائل مصر بلهجاتها المختلفة و بدقة تكاد تطابق الواقع.
على سبيل المثال تجد ممثلا ما ولد في منطقة وبيئة غير بيئة الصعيد بتنوع لهجاتها لا أنه يستطيع أن يتقمص هذه الشخصية وكأنه أحد أفرادها ويصلإلىاللهجةالصعيديةببراعة فلا تخاله ممثل، رغمأناللهجاتالصعيديةهيالأصعب،إذاماقيستبصعوبةأداءاللهجةفيها،وهيلهجةكثيراماأخفقعددمنالمصريينأنفسهمفيتقديمها،وقدينجحممثل غير مصري كما تابعنا الممثل السوري جمال سليمان الذي نجح فيمافشلفيهممثلونمنأبناءمصر»،لماذا نجح؟ ببساطةأنالمنتجينيستعينونبمصححيلهجات،ليكونواموجودينبشكلدائمأثناءكتابةحلقاتالمسلسل،وكذلكليدربواأبطالالعملعلىإتقاناللهجةالصعيدية، وهذا في الغالب ما تفتقده الدراما السودانية عموما، لأن الدراما السودانية يلزمها الإنتاج، ومشكلتها إنتاجية بحتة خصوصًا مع توافر الكوادر السودانية في كل المجالات من كتاب وممثلين ومخرجين وتقنيين وفنيين، لكن ليست لديهم قاعدة إنتاجية ورأس مال يشجع لكي ينتج، لينقل لنا هذه البيئات السودانية بلهجاتها المختلفة الى المسرح أو الى القنوات الفضائية، و المتلقي السوداني ذواق جيد طالما أن العمل المعروض قد أشبعه وسيظل متابعا له بشغف ولا يمله كما شاهدنا عددا من المسلسلات الدرامية التي عرضت من قبل (الدهابية) كمثال.
على هذا تبقي اللهجات إحدى أهم نقاط الضعف الواضحة التي تكشف مدى ركاكة المشهد الدرامي السوداني وافتقاره لمقومات الاحتراف والعمل الممنهج الهادف للرقي، وأعني ما يغص به العمل الواحد الذي يتناول بيئة أو منطقة من تعدد في اللهجات بين شخصياته الذين يؤدون أدوار أفراد أسرة واحدة أب وأم وأولاد وأقارب، وقد بات من المألوف - أو هكذا فرض على المشاهد - ان تجد أباً يتحدث بلهجة و ابنا له يتحدث بلهجة أخري، وزوجته تخلط بين هذا وذاك رغم أنهم أبناء بيئة واحدة أو هكذا يجب أن يكون، ويريد المنتج ان يستمر الجمهور خلف الشاشات لمتابعة هذا العمل الذي ليس أكبر عيوبه قضية اللهجات المتعددة هذه، بل عدم نقله لهذه اللهجات بتوابعها، فاللهجة ليست لسان فقط، بل لسان وعادات وتقاليد، ثقافة مجتمع تجمع كل ما تحويه من موروثات اجتماعية خاصة بمنطقة ما موضوع اللهجة، حتى شجره و مدره، جباله و تلاله، أزياء المنطقة، الأفراح والأتراح.
ليس غريبا أن الأغنية السودانية قد نجحت فيما فشلت فيه الدراما، الأغنية عكست واقع جميع المجتمعات خاصة المصورة (فيديو كليب)، فنجد شعراء ومغني الشمال سواءا كانوا شايقية، مناصير، محس، حلفاويين، من خلال أغانيهم نقلوا بيئتهم فعرفناهم من خلالها و لم نزرها، كذلك د.عبد القادر سالم، وعبد الرحمن عبد الله والأغنية الكردفانية التي جعلتنا نعرف رمال كردفان، و ليمون بارا، عمر إحساس الذي اجتهد في نقلنا الى دارفور بلهجات اهل المنطقة، ونجد سيدى دوشكا مجتهد آخر كناقل و معبر بلسانه وأدائه عن أهل الشرق رغم أنني لا أفهم ما يقول الا أنني استمتع بغنائه.
اذا لما لم تنجح الدراما السودانية في عكس واقع هذه المجتمعات السودانية؟
ببساطة الفوارق التي تحدث في الآداء الدرامي ترجع الى الحوار العامي الدرامي فمؤلفي النصوص يكتبونها بلغة مختلطة (عامية و فصيحة) تجاري لسان المثقف عموما، و لهجة العاصمة وهم خليط بالضرورة حيث تجتمع كل لهجات المناطق المختلفة، فنشأت لهجة مفهومة للكل و يتحدث بها الجميع مع الاحتفاظ نوعا ما بجرس بعض الحروف ونغمات الكلمات كما ورثها الناطق،فالشايقي مثل يظل محتفظا بالإمالة طالما أنه ما زال مرتبطا بكريمة.
 وعلى هذا يحاول أهل القرى اكتساب لهجات أهل المدن، ويتحدث فيها المثقفون إعلامياً بلغة فصحى حديثة هي الآن اللهجة السائدة، وهي التي أثرت في حوار الكاتب للنص، فاختلط الأمر لديه ما بين حوار عامي وحوار فصيح، في نفس سطر الحوار تجد هذا واضحا، كلمة عامية ثم فجأة تقفز كلمة فصحي، والعيب الأكبر أن تدخل كلمة أو فعل من بيئة غير البيئة السودانية، منقولة بتأثير مشاهدات أعمال (الغير) الدرامية، فرسخت في ذهن الكاتب وعند معالجته للنص تدخل (منسرقة) بسهولة، فيحدث الاهتزاز في الحوار، بالتالى يجفل المتلقي.  
الإشكالية ليست عند مؤلف النص فحسب، فالمؤلف يكتب كيفما اتفق له، لكن يجب أن يكون هنالك (ناقد) أولا يعرض عليه النص، ثم منتج ومخرج يحرصان على جعل هذا الحوار العامي متزنا ملتزما بخط واحد إما فصيح أو عامي، ثم يستخرج أو يحول الكلمات الفصيحة فيه أو الغريبة عنه، الى عامية سودانية حسب بيئة الحوار، وتبقي إشكالية الكاتب السوداني عموما سواء كان قاصا أو روائيا أن يبتعد عن حوار لا يفهم بيئته كما يجب حتى لا يؤدي الى ضعف انتاجه الكتابي.
ومن أجل معالجة وسائل التعامل مع اللهجات واللكنات، رغم أن الغالب الأعم هو لهجة الوسط السوداني في كل الأعمال الدرامية السودانية، مع مغازلة لهجة أهل الجزيرة، وهذه نفسها إشكالية أخري، لأن معظم الأعمال تتناولها بجانب فيه كثير من السخرية و الاستهزاء، فأفقدتها نكهتها، فأصبحت (ممجوجة) مبتذلة، فالنطق لها غالبه غير صحيح، مصحوبا بحركات غير مناسبة لها.
على هذا تغيب اللهجات العامية السودانية عموما عن الدراما السودانية، التي كان من المفترض أن تنقلها ببيئاتها المختلفة لتثري الأدب السوداني عبر بوابة الدراما، فمناطق الشايقية والمناصير والجعليين، الفور والزغاوة، الهوسا ، البجاو الهدندوة، وغيرهم و غيرهم، في كل هذه المناطق مساحات من الإبداع والجمال، التراث والثقافة الاجتماعية التي تميز هذا عن ذاك عن تلك، لكن تظل الدراما غائبة تماما لعكس هذا كله لتفتح أبوابا من التشجيع السياحي، كما غني عبد القادر سالم (مكتول هواك يا كردفان) ولم يكتفي بالأداء الغنائي فقط بل استصحب فلكلور وثقافة كردفان، وكذلك الفنان سبت عثمان والفنان الجمري حامد، بابكر ود السافل، محجوب كبوشية، و تراث الجعليين، وغيرهم ممن اهتموا بالأغنية التي تعكس بيئاتهم.
الاهتمام بأبناء المناطق كمصححين للهجات المرادة في الحوار العامي الدرامي هو النقطة الأساسية التى تجعل الحوار العامي مميزا بالتالى سيعطي العمل الفني بعده وتأثيره ليبقي له أثر لدى المتلقى.
كاتب السيناريو ومالهمن تأثير عظيم على التوجهات الإبداعية، والتأثير العاطفي على النص.
مع كل هذا نجد إجتهاد(بعض) الممثلين واضحا في جعل مفردات الحوارالعامية متوازنة بلهجة واضحة لا تسير وكأنها (مطبات) تعلو و تهبط فحافظوا على مكانتهم كممثلين رواد، منهم الأستاذ محمد شريف على، السر محجوب، سمية عبد اللطيف وغيرهم، و هذا ما سنتاوله في تواصلنا مع هذا المقال، ولماذا وكيف ظلوا محافظين على تلألأ نجومهم بأريحية لدي المتلقي، دون خلل واضح في أدائهم الحواري العامي، بالرغم من وجود هذا الخلل البين لدي ممثلين معهم في نفس العمل الدرامي، فيصبح كأن محمد شريف على في واد والممثل الأخر في واد آخر رغم أن المخرج واحد، من هذه العباءة انسل الفنان الرائع مختار بخيت (الدعيتر جي)...

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

hala ali
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق