الاربعاء, 06 مايو 2020 10:17 مساءً 0 741 0
تأملات في بنية الوعي الثقافي الزائف: ورقة للنقاش
تأملات في بنية الوعي الثقافي الزائف: ورقة للنقاش

تأملات في بنية الوعي الثقافي الزائف: ورقة للنقاش
محمد محمود راجي، الاثنين 4 مايو 2020
الوعي الوطني للشعوب يبنى على المكونات الراسخة، وليس على توهمات متخيلة تنتهي إلى وعي زائف، وأنفة خاوية، وخيارات خاطئة، وأحكام متعجلة. 
أو ليس جزءاً كبيراً من احكامنا، وخياراتنا وقراراتنا، ورؤيتنا لنفسنا، وعللنا المزمنة، وأوضاعنا المتردية، وعلاقاتنا المتوترة بالآخرين، منشأها وعي زائف، شكلته خرافات، وأساطير، وروايات ضعيفة، وأكاذيب رسخها مستعمرون، ومؤرخون، وسياسيون، وشعراء، ومغنيون اقتلعوا الوطن من جذوره التاريخية الراسخة، ألبسوه ثوباً غير ثوبه، وتمثلوه جزءاً أصيلاً من مضارب العرب في جزيرتهم، وقصور الخلفاء في حواضرهم، وبلابل الأندلس في خمائلها، التي تغنى بها محمد أحمد المحجوب، وأنشدها فردوساً مفقوداً: 
نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا‎     فذقتُ فيكِ من التبريحِ‎ ‎ألوانا‎
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ‎    داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا‎
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ‎    ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا‎
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها‎       ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا‎
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها‎    مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا‎
شعر على رقته، وقوة لغته، وبراعة ميزانه، وروعة خياله، لكن حتما لا علاقة له بالواقع السوداني، فلا ناقة لنا في ذلك الفردوس المفقود ولا جمل. الشاعر محمد المكي إبراهيم يصف ما يكتبه أمثال ذلك الشاعر بأنه "مغالطة للواقع، فلا نلمح في انتاجهم أي إشارة محلية، ولا تجد فيها شيء يربطها بالأرض السودانية" . 
العلة في كل ذلك هي اصرارنا منذ استقلال السودان وربما قبله على "التمسك بمنظور أحادي إنسدادي لتراث أمتنا السودانية ينطلق من نظرة جزئية تحاول تحديد مولد تراث الأمة السودانية بالفتوحات العربية الإسلامية، ليصبح الإسلام وحده كل تراثنا" . والمغالطة هنا أن السودان ما كان جزءاً من جغرافيا الفتوحات الإسلامية، بل أنه لم يكن في أي لحظة من لحظات التاريخ جزءاً من الدولة الإسلامية، دخله البدو، فرادى وجماعات، تسللاً سلمياً عبر القرون "طلباً للمرعى والمعدن أو لاسترقاق الآخر وقهره والاستحواذ على ثرواته" ، ثم بعد سبعة قرون من التمكين لجأوا إلى وسائل الغلبة والسطوة والاستئصال، فورثوا دولة المقرة المسيحية "بانتقال السلطة داخل الأسرة النوبية الحاكمة من فرع يدين بالمسيحية إلى فرع نوبي مستعرب يدين بالإسلام" ، ودمروا مملكة علوة المسيحية على يد الحلف السناري الذي ضم الفونج والعبدلاب، في ما عرف بخراب سوبا، وبهذا "أصبح لرعاة الأبل القوامة على بناة الأهرامات، ومخترعي الحرف المروي، وبناة المدن الملكية التي ما تزال تدهش المهتمين بالحضارة والتمدن والتاريخ بحسن ترتيبها وجمالها" . 
انتشر العرب في أرجاء البلاد، "استوطنوها وملكوها وملأوها عيثا وفساداً" ، "قضوا على ما تبقى من نمط الحياة النوبية المتحضرة، التي عرفها هذا الإقليم منذ آلاف السنين" . "تضعضع خلالها استقرار البلاد وضمر رخاؤها" ، سادتها ثقافة الغزو والسلب والنهب والتعدي ذلك "أن ظاهرة الاغارة على المجتمعات الحضرية كانت واحدة من مناشط البدو التقليدية" . فقد الناس الأمن والنظام. هُدِمت القصور والحصون والكنائس. سويت المدن بالأرض. انقطع حبل التواصل الحضاري. سادت الأمية بعد قرون مزدهرة كتب خلالها صفوة السودانيين في الهيروغرافية والإغريقية والقبطية والنوبية التي ابتكروا أبجديتها في القرن العاشر الميلادي. وكثير من الباحثين والمؤرخين يتفقون على أنه لو كان أولئك الوافدون البدو "على شيء من الحضارة والتمدن، لنجحوا في إحداث انقلاب أبيض، ولأزاحوا ملوك النوبة، وجلسوا مكانهم، مع الاحتفاظ بمدنهم التاريخية سليمة، غير أنهم دمروا المدن" ، "فما أحدثه عرب القواسمة والفونج في سوبا كان تخريبا"  بكل معنى الكلمة. و"هنا لا ينفع تصويب التاريخ واعادة شق مجاريه، فما حدث قد حدث" ، "فطبيعة العقل الرعوي السلب، وليس من طبيعته البناء" ، فهؤلاء وبحكم نشأتهم في البرية بعيداً عن الحواضر، ما اكتسبوا من قيم الإسلام الحضارية سمةً، و"ما حملوا معهم من مكونات العمران شيئاً" ، و"ما كانوا قادة فكر أو رأي" ، و"ما كانوا دعاة مبشرين مثل رصفاء لهم حملوا لواء الدعوة في بلاد الهلال الخصيب والشام" ، ومصر واليمن وفارس والشمال الأفريقي. 
وحتماً أن "الثقافة الإسلامية ومكوناتها وأوعيتها من مساجد ومسايد وطرق صوفية وتجمعات ثقافية وأشعار وآداب وأسمار وأعراف وتقاليد من لحظة الميلاد مروراً بالزواج، وانتهاءً بمراسم العزاء والدفن، هي أعظم منتجات المجتمع السوداني المدني" ، ولا يستطيع غير جاهل أن ينكر الدور الطاغي للعامل العربي الإسلامي في بناء الهوية الوطنية وتشكيل الشخصية السودانية المعاصرة، وبخاصة في نزوعها الوجداني، وفي عمقها الديني واللغوي، وفي بعدها الثقافي، وما لعبته من دور في تشكيل أساليب الشعور والتفكير والتخيل، الى الحد الذي أصبحنا فيه "منشغلين بقضايا العرب أكثر من انشغالنا بقضايانا. مهتمين بآلام ومقاساة غزة، وسوريا، أكثر مما نهتم بآلام ومقاساة دارفور، أو جبال النوبة، أو حتى شرق السودان. فنحن نعيش حالة فصامٍ معيبة" . غير أن هذا الوضع لن يجعل السودانيين عرباً اقحاحاً ولن ينفي بالضرورة أفريقيتهم. ولو سارت أمور الأمم على هذا النحو لصار النيجيريون والهنود بريطانيين، ولأصبح التونسيون والجزائريون فرنسيين، ولبات العراقيون فارسيين، ولأصبح أهل الخليج العربي هنوداً أو فرساً. 
الهويات الوطنية لا تبنى على أشجار النسب المنتحلة، ولا تؤسس على رغائب (Wishful Thinking) "الأفندية" المتخيلة، وإنما تؤسس على حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، ومجريات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ومكونات الثقافة المادية، وما اعتمده الناس من أديان ومعتقدات وأنماط معيشة وتجارة ووسائط تبادل، وما انتظم حياتهم من عادات وتقاليد وأعراف، وما اختبروه من مطر ورشاش وسيل وفيضان وكتاحة وهبباي وجفاف، وما شربوه من محاية وموص ومريسة وشربوت ودكاي، وما أكلوه من قراصة وكسرة وعصيدة وفطير وخبز وويكاب وشرموط وتركين، وما لبسوه من رحط وعراقي وتوب، وما طربوا له ورقصوا معه من "دليب" و"تمتم" و"شاشاي" و"جراري" و"وازا" و"حاج الماحي". 
وعلى الرغم من "غلبة التيار العربي الإسلامي على كثير من مظاهر الثقافة السودانية اليوم، إلا أنه يجب ألا ننسى أن خلفية هذه الثقافة، ممثلة في البذور والنوى الحضارية التي ازدهرت في السودان القديم، هي في وجهها ووجهتها، أفريقية بحتة" . والأثار الأفريقية مبثوثة في كل مفاصل ثقافتنا المادية: شلوخ ومشاط وأنواع طعام وشراب ومسكن وآلات زراعة وأدوات موسيقى. وهو عمق ظللنا، نحن التيار المهيمن، ننكره ونخجل منه ونخبئه بين الجوانح، وكأن الانتماء للأرومة الأصل عيب أو مسبة، وهذا في ظني بعض من إرث العبودية، فــ "علامة الحرية ألا يخجل الإنسان من نفسه" على حد قول نيتشه.
ولكن للأسف فنحن منذ استقلال بلادنا "لم نطرح تراثنا السودانوي طرحاً تاريخياً جدلياً، ولم نكشف وحدته وتنوعه، ولم نبحث تراكماته الكمية وتغيراته الكيفية، وبالتالي لم نتعرف، بسبب سياسة إعلامية وتعليمية منسدة، على أعظم ما فيه" ، ولذلك ما زالت الأساطير والخرافات، هي المكون الأول للصور الذهنية المتوهمة للسوداني عن ذاته، بما أخفى عن السودانيين طويلاً حقيقة تاريخهم وبخاصة في ما يتعلق بأساليب الإنتاج والعلاقات الاجتماعية والنظم والمؤسسات السياسية، والدور الذي قامت به مختلف مكوناته الجغرافية في بناء التحولات التي شهدها. والمؤكد "أن تراثنا الحضاري الذي يشكل جماع تشكيلات الثقافة المحلية والوافدة لهو أغنى من أن يحد بمرحلة حضارية واحدة، فمن العصر الحجري الحديث وكرمة ونبتة ومروي، ومن نوباديا والمقرة وعلوة، ومن سلطنة الفونج وتقلي والمسبعات، والدولة المهدية ينحدر إلينا تراث ضخم لم يلق للأسف ما هو جدير به، وما هو جدير بنا. ظل دعاة الرؤية الأُحادية الإنسدادية ولا زالوا يحاولون التشديد على ضرورة الانشغال بالمقاربة بين التراث الإسلامي والثقافات السوداني ومحاولة التوفيق بينهما، هذا في الوقت الذي يتوجب علينا فيه استعادة ذاكرتنا الحضارية السودانوية بكل أبعادها ومحتوياتها، مهما تناقضت وتعارضت" .  زاد من الوضع سوءاً ما لعبته مناهج التاريخ المقررة على طلابنا، من دور في تشويه الصورة العامة للوطن وتفكيكها إلى تفاصيل غير مترابطة وغير متجانسة وغير متسقة، فالتاريخ ما عاد علماً لفهم الماضي والتأثير في الحاضر وامتلاك المستقبل، وإنما مجرد قصص لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي، وحكايات ساكنة يتسلى بها الناس، ولا يستفيدون من معرفتها شئياً.  

 

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

مسئول أول
المدير العام
مسئول الموقع

شارك وارسل تعليق