السبت, 04 يوليو 2020 01:17 مساءً 0 344 0
في المسألة السودانية: الطوفان قادم... متى نستفيق!؟
في المسألة السودانية: الطوفان قادم... متى نستفيق!؟

بقلم أ.د. عز الدين عمر موسى

إن المتأمل في المسالة السودانية المعاصرة وأحداثياتها المستجدة يلحظ أن السودان شهد ثورة في ديسمبر 2019 لم نر  مثيلها في التجربة السودانية، ولا نظير لها في سوابق العالم الثالث طرا. ومن ثم يستبصر، ودون الوقوف عند العوامل العديدة التي اشعلتها وأدت الى نجاحها في إسقاط النظام السابق، أن هناك ثلاثة عوامل ميزت هذه الثورة عن غيرها وأكسبتها تفردها:

أولًا؛ الإجماع الشعبي الهادر الذى إشترك فيه كل الناس حتى من ينتمون فكريا وتنظيميا الى النظام السابق، فصقعتهم ممارساته، فكفروا به، فمنهم من تمنى زواله، ومنهم من سعى لتحقيق ذلك.

ثانيا؛ الشباب هم قيادة الحراك ووقوده. فقد ولدوا في النظام، ورضعوا من ثدي فكره، وترعرعوا في فعله، فصدمهم عظم هول المفارقة بين المثل الأعلى الذى تشوفوا والوقع التعيس الذى فيه عاشوا ففغروا أفوههم مندهشين، والدهشة أول الإبداع، فأبدعوا ثورة مدهشة ومخالفة للمألوف في نهجها.

ثالثًا؛ إن سلمية الثورة أمضى سلاح ا ابتكرته ضد نظام مدجج بالسلاح الرسمي ورديفه الشعبي المهول الذى لم يعرف له السودان مثي لا، فصنعت الثورة هذه السلمية التي صفت الجموع طوفانا بشريا كل يوم، فملأ الشوارع والساحات والدروب في المدن والقرى والسهوب، فانفتح الطريق لأهداف الثورة الرئيسة؛ حرية عدالة سلام.

وهكذا نجحت الثورة في إسقاط النظام. ولكنها الان عند مفترق طرق ثلاثة:

.1 إما أن ت ستلب كما سلبت صويحباتها من قبل؛ أكتوبر وأبريل وما دون ذلك.

.2. وإما أن تخور السلمية، فتعم الفوضى، فيستسلم ثوار الأمس السلميون لدكتاتور

أعتى وأظلم وأفتك. وحسبك الثورتين الفرنسية والبلشفية، ولهما أشباه ونظائر

في مختلف الحقب ومختلف الأمم، كأنها سنة كونية ماضية.

.3 وإما أن يسلك أهلها الطريق الأسلم ولكنه الأصعب، فيبحثوا عن العلة في

ذواتنا وليس في غيرنا. فما أس العلة إلا الكراهية المعشوشبة في نفوسنا،

المستجنة في قلوبنا، المستكنة في عقولنا، المهيمنة على تصرفاتنا، الممزقة

لمجتمعاتنا، لأنها ذابحة لكل فضيلة مكرمة للإنسان أي إنسان، مجرد إنسان.

ونظل في كل مرة نبحث عن العيب في غيرنا وهو فينا. أليس من هنا نبدأ؟!.

ولكنه طريق شائك عسير. وإن نفعل ن شعل ومضة في تاريخنا الذى أظلمناه.ولقد إهتدى د. راشد المبارك المفكر السعودي إلى هذا في الأمة الاسلامية من قبل، فكتب قبل عقدين من الزمان سفرا أسماه "فلسفة الكراهية: دعوة الى المحبة". وتلطف وطلب مني كتابة مقدمة له، وأقتبس منها أولها الذى هو لحالنا مشاكل، وفيه وقفة مهمة وضرورية تسعف في استبصارعلتنا. شغل الفكر الإنساني في تاريخه المكتوب بمحطات مهمة وحاسمة وجديرة بالتأمل في قيام الحضارات وانحلالها وسقوطها.. وهذا الباب من أصعب موضوعات الدراسات الإنسانية، بل أعقدها.. إذ كثيرا ما يختلط فيه الذاتي بالموضوعي، والعقلي بالعاطفي، فيضل الدارس الطريق،ويغدو تأثيره تهييجيا هادما لا عقلانيا بانيا .. أو يصبح إنكفائيا متقوقعا محافظا لا منفتحا منطلقا متقدما .. ذلك لأن محطات التأمل تلك إما أن تكون سعيا للتحرر والانبعاث، وإما أن تكون جهدا لمنع التقهقر والانحدار.. وهي لحظات غالبا ما تكون مشوبة بالعاطفة، وقلما تكون محكومة بالقوى العاقلة.. وقليلا ما يجد المنتج العقلي العملي بيئة صالحة تثمر حضارة رائدة أو نهضة واعدة..وإذا شئت فتأمل الحضارتين الإسلامية الماضية والغربية الحاضرة، تجد لهذه المقولة صورا شاخصة ماثلة.. فلما انكسر خط التقدم في الأولى نازلا مسفلا ، وأصبحت الأرض مجدبة، لم تغن فيها صيحات مختلفات ومتفرقات زمانا ومكانا .. فغاب غزالي "التهافت" في "منقذ " التصوف.واختفى ابن تيمية الاصلاحي في شرح المتون، وشرح الشروح، والحاشية على الشروح. وهاجرابن خلدون بحثا عن أرض جديدة من خارج دياره المغربية فعز الطلب في المشرق ، وقد أعجزأهله.. وهكذا تك ر س الانحلال، وتحتم السقوط، وسار إلى الوراء الوراء.أما الغربية الحاضرة فما أن شعر أهلها بعلامات ضعفها، وخافوا انحلالها وسقوطها منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي، توجهوا لدراسة الحالة؛ فكان كوبرنيقوس وجاليلي وديكارت ونيوتن وكانت ومونتسكيو من أساطين العلم والفلسفة، وجبسون واشبنغلر وهيغل وماركس وتوينبي... وغيرهم في البحث عن جوهر التاريخ.. وآخرون في شتى المجالات.. وكانت التربة لاتزال خصيبة، فما انهارت حضارتهم، وأصبح لها في كل الميادين فتوحات وإن ظن الواهمون من أهلنا غير ذلك، لأن رؤاهم نتاجٌ فكر التمني لا الواقع.ألا يتبدى لك من هذين المثلين أن التربة المستجيبة هي شرط الشروط للنهضة لمن كانت له حضارة ثم بادت أو أنها قائمة ثم أوشكت أن تشيخ وأراد أهلها تجديد شبابها!؟ ومن ثم فإن أي نهضة جديدة تحتاج إلى تربة مستجيبة.ألا يدل هذان المثلان على أن العلة الرئيسة في فشل مشاريعنا النهضوية الحاضرة والمعاصرة، وطنية وقومية وإسلامية، علة في أساسها داخلية لا خارجية!؟ألا يشى ذلك إلى أننا أخطأنا في تشخيص الداء فع ز الدواء.. وإذا كان )خطا الطبيب إصابة المقدار( فإن طبيبنا الجاهل وصف دواء خاطئا ، وأعطى جرعة زائدة، فتساوق الضعف وأنهكنا،و جثم التخلف وهرسنا يوم جعلنا الآخر وهو الغرب وحده أس علتنا، وسبب فشلنا.. فلم ننظر في عيوب ذواتنا ولم نحسن التعامل مع بني جلدتنا وملتنا وإن اختلفوا معنا، بل نحاول إقصاءهم في كل تجاربنا، كأنهم وحدهم أسباب كوارثنا.. هكذا كنا مع التطهير في أكتوبر، وعدم المواكبة في مايو والتمكين في يونيو، واليوم مع إزالة التمكين، فنحن الملائكة الأطهار، وغيرنا شيطان رجيم،

متناسين النداء العظيم وفِي أ نْفسكم أفلا تبْصِرون )سورة الذاريات الآية  (.91 هذا مع أن المنهج الرباني الذي نتلو كتابه كل يوم ينادي بالنظر في النفس عن كل خلل يصيبنا أو يصيب غيرنا.. يقول الحق سبحانه: (إ ن اللَّه لا يغير مابقوْمٍ حتىٰ يغيروا ما بِأ نفسِهِم .) )سورة الرعد الآية 11)

ألم يأنِ أن نفارق السبل الماضية التي أورثتنا الضنى، وسربلتنا الخنى، واجدبت ارضنا؟. ألم يأنِ أن ينظر كل واحد منا إلى العيب في ذاته قبل النظر إليه في الآخر؟، لنقهر غول الكراهية النائخ بكلكله فوق صدورنا منذ أن قامت دولة السودان الحديثة، فنفتح آفاقا جديدة دون التخلي عن محاسبة من فسد أو أفسد، ومن قتل أو ساعد على القتل، ومن استغل نفوذا فأثرى بعد إملاق. فإن لم نفعل فالساقية ستدور وتدور والجدد فيها يرددون "إن الش ر بالش ر ، والبادي أظلم" ، والكل في الميراث آمل، والجديد لن يختلف عن القديم. وهذه هي البوادر قد لاحت، فسيتبلور الجديد القديم إن لم تكن فينا جميع ا جسارة للصدع بكلمة الحق، مداراة الذى يجرى، وهو مخيف،. وإلا فالساقية ستدور وتدور، فانتظروا الطوفان، وهذه المرة سيقول لطوفان نوح ما أيسرك، لقد تركت بقية، أما أنا فلن أبقى ولا أذر. فمتى نستفيق!!؟؟ وما السبيل إلى الاستفاقة!؟ إن هذا عمل يحتاج إلى عصبة من الناس. فهل نجمع أهل العلم والخبرة إلى مائدة لتشخيص أسباب الكراهية فينا، وتصنيف أنواعها

المنتشرة بيننا، واستجلاء الوسائل لعلاجها، لأنها أس المشكلة السودانية، على أن لا نخاف من الاعتراف بعيوبنا، لا سيما المسكوت عنه وهو كثير، وبغير ذلك فالطوفان قادم.

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

nadir halfawe
كاتب فى صحيفة أخبار اليوم السودانية

شارك وارسل تعليق